القيم إلى أين؟ مداولات القرن الحادي والعشرين 1
د. عايدة بنكريّم / تونس
المقدّمة
يجمع هذا المؤلّف الجماعي حوالي 50 شخصية في مجالات معرفية متنوعة، ويسلط الضوء على إعادة تعريف القيم، سواء أكانت أخلاقية أو جمالية أو بيولوجية، ويتمحور النقاش حول أربعة أجزاء رئيسية:
- القيم إلى أين؛
- والعولمة والتكنولوجيات والثقافة الجديدة؛
- وإعادة تعريف عقود اجتماعية جديدة؛
- وأخيرا العلوم والمعارف والاستشراف.
ويشتمل الكتاب على نبذات بيوغرافية للمشاركين في الحوار، وقائمة للمصادر والمراجع المذكورة.
في مقدّمته للنسخة المعرّبة يوضّح عبد الوهاب بوحديبة رئيس المجمع التونسي "بيت الحكمة" أنّ هذا الكتاب يتأطّر ضمن سلسلة "الترجمات الكبرى" وقد سبق لبيت الحكمة أنّ قدّم للقرّاء في سنة 2003، الطبعة العربية "لمفاتيح القرن الحادي والعشرين" الصادر سنة 2000 بالفرنسية عن اليونسكو. ويعتبر الكتاب الذي بين أيدينا الحلقة الثانية لـ"محاورات القرن الحادي والعشرين" التي جمعت في جلساتها شخصيات علمية وفكرية وإبداعية ذوي الشهرة العالمية، الوافدين من جميع البلدان والذين بحسب تعبير بوحديبة "تحدوهم الروح الاستشرافية متعدّدة الاختصاصات". (تمهيد)
يقول كويشيرو ماتسورا، الأمين العام لليونسكو، في تقديمه للكتاب: "يمكننا القول إنه في تاريخ الإنسانية، ومن دون أي شكّ، لم يكن من القيم بالقدر الذي نشهده اليوم (...) فالغرابة في ظاهرة العولمة لا تكمن إذن في غياب وهمي متصنّع للقيم؛ (...) بقدر ما توجد أزمة في تحديد معنى القيم" (ص.11-12)
نسلّط الضوء في هذا التقديم الموجز لهذا الكتاب على الجزء الأوّل منه. وقد تناول أهمّ المطارحات حول المقولات الأخلاقية الكبرى التي حدّدت بوصلة إنسان الحداثة وعصر التنوير، وتحاول من زوايا نظر متباينة الإجابة عن سؤال إن كانت تلك البوصلة لا تزال صالحة للإبحار في عصر العولمة حيث اكتشف الإنسان تنوّع الثقافات وتعدّد القيم التي كان يجهلها سابقا إنسان الحداثة والتنوير؟ هل غابت القيم في زمن العولمة أم أضاع الإنسان بوصلته الأخلاقية ولم يعد قادراً على تحديد الاتجاه الصحيح؟
أفول القيم أم تصادمها أم تهجينها؟
يقدّم جياني فاتّيمو وأرجون أبادوراي مسارا مختلفاً عن مسار صراع القيم وعنف المطالبات المتعصّبة الذي فرضته صدمة 11 أيلول/سبتمبر 2001. ويقترحان في المقابل "المفاوضة" باعتبارها حجر الأساس لما يسميه أبادوري "أنسنة تكتيكية". ومن جهته يصوغ جان بودريار من خلال فرضية التعارض بين العالمي والكوني فكرة أساسية مفادها أنّ "كلّ ثقافة تصبح كلّية تفقد من خصوصيتها وتموت (...) والفرق هو أنّ باقي الثقافات ماتت بفعل خصوصيتها، وهو موت جميل، بينما نحن نموت لانعدام أي خصوصية، وبسبب قضائنا على كلّ قيمنا، وهو "موت سيئ"..." (ص.51).
نحن إذن في بحث دائم عن الهوية أو القيم؛ ولذلك يحذرنا بول ريكور من الأحكام المسبقة التي قد تؤدي إلى تحيز خطاب القيم. وعن "سؤال القيم إلى أين؟" يجيب ريكور "أنّ مسؤولية المثقفين لا تكمن في استباق تطورات تخضع لظروف متعدّدة وإنما في لعب دور "المدرّب العام" مع أخذ المسافة عن أهل السياسة وخبراء الاقتصاد والعلوم الاجتماعية. بالإضافة إلى ذلك، علينا وعلى المستوى العالمي، أن نضع أنفسنا في خدمة الجمهور العريض، آخذين بعين الاعتبار أننا لسنا سوى أقلية" (ص.83)
قيم جدية أم قيم عابثة؟
يتفق أدغار موران مع بول ريكور في مسألة حتمية التعدّد الإنساني، ويعتبر أنّ مشكلة القيم في القرن الحادي والعشرين تأتي من التعقيد الأخلاقي. ويدعو إلى دمج أهمية الاختلافات في خطاب الأخلاق مستنداً إلى القناعة بأنه يوجد "تعدّد آلهة القيم" (ص 106). وفي نفس هذه الوجهة يشير محمد أركون إلى أنّ قضية القيم طُرحت بشكل سيء، واستغلّت كمادة هجومية مغلوطة (...) وتحوّلت أكثر من أي وقت مضى إلى موضوعة سياسية تهدف إلى إضفاء شرعية على ما يسميه "الغرب" العلماني "الحرب العادلة"، وما يطلق عليه اسم "الجهاد" في الفورة الأيديولوجية لبن لادن التي تحظى بتأييد واسع في المخيلة الإسلامية" (ص 91-92). ويعتبر أركون أنّ المفهومين (الحرب العادلة-الجهاد) يتطابقان بشكل كامل، لجهة إعطائهما شرعية للعنف الحربي.
يطرح جان جوزيف غو، من خلال التشكيك في شمولية القيم وثباتها، أسئلة عن ماهية القيم المستقبلية. وعن المنفعة من وراء الخشية من المجانية أو العبثية التي أطلق عليها اسم "نظام البورصة في القيم" (ص 113). ومن خلال المقارنة بين رجل التنوير والانسان المعاصر وكيف عمل كلاهما على تأكيد حريته بإضفاء بُعد جمالي على الأخلاق (نيتشة-فوكو-دولوز)، يطرح غو السؤال التالي: هل نحن نتجه نحو إضفاء البعد الجمالي على القيم esthétisation؟ (ص 111).
نحو إضفاء طابع جمالي على القيم
في السياق الذي أصبحت فيه الجماليات مرجعا، ماذا بقي من البعد الأخلاقي للقيم؟ وهل أنّ المثال الذي يقدّمه الفنّ يمكن أن يقدّم حلاّ لتشظّي القيم؟ يحاول ولفغانغ والش تحديد وضعية الفن بالذات في هذه المعادلة، من أجل استخلاص مقدمات إعادة استثمار جديدة للقيم. ويقترح ميشال مافيزولي، من جهته، في سياق نهاية الشمولية واعتماد النسبية في النظرة للقيم بشكل عام، علاقة مختلفة بين المعرفة والمهارات بناءً على التواصل حول الصور الفنية (ص 130). على العكس من ذلك، يرفض فكتور مسّوح هذا الـــــــ"استعمار (الـــ)تجميلي" للعالم الذي من شأنه أن يستبعد أي شكل من أشكال الحوار. بالنسبة له، فإن الأمر يتعلق بالبحث عن صوت "الحقيقة" الشمولية، دون التوجه بالضرورة نحو خلق قيم جديدة (ص 136)
نحو خلق قيم جديدة؟
في مواجهة الديناميكية التاريخية لتعديل الأطر المرجعية التقليدية، هل يمكن أن نتحدث عن ظهور قيم جديدة، سواء في دائرة الفرد أو الجماعة؟ بعد تحليل خطاب كانديدو منديس ما بعد الحداثي، أكد تييري غودان على نموذج التحليل المعرفي الذي سيحل الآن، حسب رأيه، محل النموذج العلمي المبتذل. ولعل هذا هو السبب وراء عودة سليمان بشير دياني إلى مفهوم الدين، في حين اختار روجيه سو أن يستمد من النمو الحالي للجمعيات نموذجا جديدا يسمح لنا بالهروب من الافتراضات الليبرالية القديمة. أخيرًا، تقول جوليا كريستيفا، أنه في بعض القيم الأنثوية يجب علينا البحث عن تجديد محتمل للقيم.
الخاتمة
إنّ هذا المؤلّف الذي يتميّز بالدقّة العلمية والكثافة في الأطروحات والتنوّع في زوايا النظر، يمثّل مرجعا مهمّا لمن يروم متابعة المناقشات الدائرة حول موضوعة القيم في مداها البعيد. ولإثراء النقاش يمكن العودة إلى كتاب المفكّر المغربي مهدي المنجرة "قيمة القيم" (2007) الذي استفاض في أجزاءه الأربعة في تحليل أهمية القيم في سلوك الأفراد كما المجتمعات وفي العلاقات الدولية بشكل عام وبين دول "الشمال" ودول "الجنوب" بشكل خاص. وبالتالي فإنّ التحدّي اليوم يكمن في أنّ الجهد الأكبر من الناحية الأخلاقية يجب أن يتحمّله المجتمع الدولي؛ مع الإقرار بأنّ إعادة النظر في منظومات القيم مهمة جماعية ويقع على عاتق الجميع بلورة قيم مشتركة تكون فلسفتها تنوّع الثقافات الإنسانية وحوار الحضارات والقبول معقوليات مجتمعاتها.
عنوان الكتاب في لغته الأصلية:
Où vont les valeurs ? Entretiens du xxie siècle
المؤلّف:
جماعي بإدارة جيروم بيندي Jérôme Bindé
المترجم:
زهيدة درويش جبور – جان جبور
وتمّت الترجمة تحت مسؤولية دار النهار بيروت
مراجعة:
عبد الرزاق الحليوي
االناشر:
المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة" –منظمة اليونسكو
سنة النشر:
2005
عدد الصفحات:
540 صفحة
1) Jérôme Bindé (sous la dir. de), Où vont les valeurs ? Entretiens du XXIe siècle, II, Paris : Éditions Unesco/Albin Michel, 2004. 512 pages.