الكرامة قيمة القيم؟
فتحي التريكي والقيم الإنسانية "الخالصة"

عبد الحق الزموي / تونس

يشغل الفيلسوف فتحي التريكي كرسي الأيسيسكو للعيش المشترك، وقد نشر عام 2018 كتابا باللغة الفرنسية تحت عنوان "Ethique de la dignité, révolution et vivre ensemble "، عرّبه زهير المدنيني وصدر عن الدار المتوسطية للنشر عام 2021 تحت عنوان "أخلاقيات العيش المشترك".

يُعتَبَرُ الكتاب مواصلةً لتنزيل المشروع النظري للدكتور التريكي الذي استهله عام 1998 مع اليونسكو، ضمن كتاب جماعي صدر بعنوان (Taking action for human rights in 21st century)؛ وقد تمحور مشروعه ذاك حول فكرة "العيش معًا في كنف الكرامة"(ص 163 – 171).

غرضُ الكتاب في نسخته العربية الذي بين أيدينا البحث في "قدرة الإنسانية الخالصة" على "إقرار إيثيقا جديدة للحياة وأخلاقيات واضحة للعيش المشترك" (ص 27). نحن إذا بإزاء رسم خارطة للقيم – العملية الأساسية التي "يجب" أن يبني عليها الإنسان الفرد (ولكن ليس المكتفي بوحدته) حياته الإنسانية، ويؤسس لقواعد المشترك؛ لذلك خصص التريكي الفصل السادس منه لما أسماه "الكرامة والضيافة"، ووزّعه إلى فقرات خمسة: التآنس / التوافق (الوفاق) / الضيافة / الكرامة / الاحترام.

يبحث التريكي – الفيلسوف عن "جمالية العيش معًا"، ويجدها في "قدرة الانسان ... على تحويل اجتماعيته الطبيعية إلى اجتماع متعقّل" (ص 113)، ويعدد قواعد تلك القدرة وتنزيلها في هندسة الاجتماع، ومنها قيمة الكرامة التي يستهل الفقرة المخصصة لها بتعريفها، ويصفها من الناحية الايتيمولوجية بأنها "السخاء في جميع أشكال العطاء" لذا فهي "تشترك في الآن نفسه مع الشرف والسخاء والعطاء"(121)، ويكون نموذجها المتعيّن النبي يوسف، لأنه ابن نبي، ولكن أيضا "لأنه جميل ومثير وعالم وودود وعقلاني وعادل". ولخشيته من أن "تنحرف" هذه الإنشائية الوصفية بالكرامة عن أصلها، يستدرك التريكي موضحًا: "وهذا لا يعني أن إنسانا ما يمكن أن يصبح غير كريم في وجوديته"، فالكرامة تعني "بالأساس خصيصة جوهرية مرتبطة على نحو غير قابل للفصل بإنسانية الانسان، حتى كأنها هي هو، وهو هي" (122).

لا شك إن الالتباس والضبابية سرعان ما تشوب قيمة الكرامة عندما نعمل على تنزيلها في الاجتماع، ورغم وضوح تعريفها الانطولوجي لدى التريكي، فإننا نجده يقول إن الضيافة "تسمح للكرامة بالتحقق وللإنسانية بالازدهار"، فكيف يَسْمحُ خُلُقٌ عملي لقيمةٍ أصلية وجودية بالتحقق؟ لعل الصورة تكون أدقّ عندما نتحدث عن التصريف وليس عن التحقق، فالوجود (أو الخلْق) لا يحتاج للموجودات ليتحقق، والكرامة من الوجود، فهي أصل ولا تحتاج لإثباتِ / تحقُقِ وجودها للاحترام أو الضيافة أو غيرها.

الضبابية في تصريف الكرامة الخَلْقية للإنسان قديمة، منذ أن استعملها الفيلسوف اليوناني شيشرون (106 – 42 ق. م.)؛ ورغم أن الفيلسوف الإيطالي جيوفاني بيكو ميراندولا (1463 – 1494) كان أول من أعاد كرامة الانسان كقيمة أصلية أنطولوجية إلى محور النقاش الفلسفي في الزمن المعاصر في "بيان في كرامة الانسان" (ترجمته آمنة الجبلاوي عام 2012، وصدر تحت عنوان "مناظرة في الكرامة الإنسانية") إلا أن ذلك الخلط بقي مُلازمًا للانتقال بين المستويين، وتلاه وسار على دربه عدد من اللاحقين، كميشيل دو مونتاني (1533 – 1592) في "مقالاته" أو غيرهم، إلا أن الانحراف بالمفهوم ليستحيل أداة في خلق التفاوت بين الجماعات والشعوب، وقهرا وظلما من فئات عليا تستأهل التمتع بتصريف الكرامة في حياتها اليومية الفردية والجماعية، وأخرى "لم تبلغ" (ضمنًا) مرتبة ذلك الحق (ما يجري على سبيل المثال في حرب الإبادة الجماعية في فلسطين اليوم)، يجعل من تحويل معركة الكرامة الأصلية (الأنطولوجية) للإنسان (الفرد قبل الجماعة، ومعها) أولوية مطلقة للبشرية اليوم، ومقدمة لكل فكرة عن العيش المشترك، أو العيش معًا... بحسب

[1] ) أنظر على سبيل المثال مناقشات بيار بواينصي لذلك الغموض واختلافات التعريفات في:

Boyancé Pierre. « Cvm dignitate otium ». In: Revue des Études Anciennes. Tome 43, 1941, n°3-4. pp. 172-191