نظرية الأخلاق القرآنية وهداية البشرية (3)
هل جلّى الجابري ضباب الخلط بين القيم والأخلاق والآداب
عبد الحق الزموري
لا شك أن الباحث في مسألة القيم والأخلاق في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، على أيّ وجه من الوجوه، مطالب بالوقوف عند السِفر الذي ختم به محمد عابد الجابري 1مشروعه الفكري في نقد العقل العربي، تحت عنوان "العقل الأخلاقي العربي"، والذي أعاد فيه نظم المُنجز التراثي في المسألة، مقررا منذ البدء – كما لاحظه بعض المعاصرين، وكما ذهبنا لذلك في الجزء الأول من هذه السلسلة - إن "المكتبة العربية خالية من أية محاولة جادة وشاملة، تحليلية ونقدية، لنُظُم القيم في الثقافة العربية الإسلامية"2؛ أما عن الدراسات التي تناولت موضوعة الأخلاق في ذلك الفكر فهي "تُجمِعُ أو تكاد على خلوّه من الفلسفة الأخلاقية".3
يميّز الجابري في هذا الكتاب بوضوح (على الأقل في مستوى الخطاب الإعلاني) بين الأخلاق والقيم عندما يقول (ص 20) "إن العقل الأخلاقي يؤسسه ويوجهه نظام القيم وليس النظام المعرفي. هذا شيء وذاك شيء آخر"؛ ويميّز أيضا بين الخُلُق والأدب "والكلمتان غير مترادفتين" كما يقول (ص 31).
ولكن هل ساهم وضوح عبارة الخطاب ذاك في تطبيقات الجابري لها وفي النتائج التي سطرها في فصول الكتاب المختلفة؟
في حدّ الحدّ، أو الغموض المعقّد
يصنف الجابري المشتغلين العرب المعاصرين بمبحث الاخلاق إلى صنفين: يصدر الأول – وهو الصنف الغالب الأعم – عن النموذج الغربي ونظام قيمه الخاص، ويحاكم ما عنده بمعايير ذلك النموذج؛ ويحاول الثاني تقديم الدليل على وجود أخلاق إسلامية أصيلة وخاصة في القرآن. ثم يُقسّم هذا الصنف الثاني إلى قسمين أيضا، يمثل الأول عبد الله دراز في رسالته التي تعرضنا لها في الجزء الأول من هذه السلسة،4 لكن مشكلة هذا الأخير – بحسب الجابري – أنه يتوجه بكتابه إلى الأوروبيين لإقناعهم بوجود فلسفة أخلاقية في القرآن، وبالتالي فهو يتبنى نفس قضايا مبحث الاخلاق في الفكر الغربي وتسليطها على القرآن والتراث الإسلامي؛ ويمثل الثاني عبد الرحمان حسن حبنكة في كتابه "الأخلاق الإسلامية وأسسها"5 ، وفيه "يحاول التحرر من تأثير الفكر الغربي واستخراج الأخلاق الإسلامية من القرآن والسنة بدون ربطها بأية فلسفة أخلاقية أخرى"6 . وقد لخص الجابري عمله في مجال الأخلاق ونظام القيم في مهمتين، القيام بدور المؤرخ من جهة، والقيام بالتحليل والمقارنة والنقد والقراءة من جهة أخرى (ص 18).
ولكن ما إن نتجاوز المقدمة التي توحي بوضوحٍ في العبارة حتى "يتكثف" الغموض تدريجيا، ونعود – ربما – إلى الدرجة الصفر، وهو مستوى الخلط والتداخل الكبير بين المستويات والمفهومات الذي تحدثنا عنه سابقا. يقول "موضوعنا هو نُظُم القيم في الثقافة العربية الإسلامية، وهو ما نعنيه بالعقل الأخلاقي العربي (نُظُم جمع نظام) ... بمعنى ترتيب أو سُلّم" (ص 21). وهو يقصد استعمال الجمع لأنه يقول بوجود نُظُم أخلاقية خمسة في الإسلام وليس نظاما واحدا (ص 22). وتبدأ "السيولة" في المعنى عندما يدعونا إلى ضرورة التمييز، في كل ثقافة، بين القيمة المركزية أو الاساسية التي تنتظم حولها جميع القيم في عصر من العصور، وبين القيم الأدنى منها مرتبة والمتفرعة عنها. ويبني الجابري تصوره للمسألة على مبدأين: يقوم الأول على اعتبار "العقل الأخلاقي العربي لا كعقل فردي ... بل كعقل جماعي، كنظام من القيم يوجه سلوك الجماعة"؛ أما المبدأ الثاني، "وهو نتيجة للأول، فهو التعامل مع كل واحد من نُظم القيم تلك بوصفه موجّها لسلوك الجماعة بالدرجة الأولى، أي بوصفه عبارة عن قيم أخلاقية من أجل السياسة، السياسة بمعنى تدبير الجماعة" (ص 24). ويتواصل التراكب بين القيم والأخلاق عندما يقرر إن "القيم التي سنهتم بها هنا هي تلك التي تخص الحياة المدنية"، وذلك لأن "القضية المركزية في الفكر الأخلاقي القديم هي كيف ينبغي أن يكون المواطن الصالح (أو الرعية الصالحة) ليكون المجتمع / الدولة (أو الراعي) صالحا، وبالتالي فصلاح الفرد (الأخلاق) كان من أجل صلاح الجماعة السياسية (الدولة)"(ص 27).
يتحدد معنى الأخلاق – عند الجابري – بالرسوخ، أي الثبات والدوام من جهة، والتلقائية من جهة ثانية؛ "فالخُلُق، بهذا المعنى غير السلوك، فهو مَلَكَة، أو هيئة في النفس تصدُرُ عنها الأفعال" (ص 33). وبما أن مجال بحثه هو نُظُم القيم، فإن النظر إلى الأخلاق يمكن أن يختلف من نظام قيمي إلى آخر. وبما أن الضبابية بدأت تلقي بظلالها على هذه المفهومات الأساسية في الحقل المبحوث، كان على الجابري مناقشة مسألة ما إذا كان الخُلُق يتغير أم لا يتغير في فقرة خاصة (ص ص 36 – 41)، ويستنتج أن "العلاقة اللغوية القائمة بين الخَلْق والخُلُق في اللغة العربية ... تلقي بظلالها على معنى الأخلاق فتجعلها تحمل معنى الطبع والعادة ... ومن هنا كان التمييز بين الخُلق الفطري أو الموهوب أو الغريزي، وبين الخلق المكتسب بالتدريب والتعلم"
ما فتئ الخلط يتراكم، فبعد أن قرر لنا الكاتب إن نظام القيم عقل جماعي لا فردي، وأنه متعدد متغير بتغير الجماعات والأزمان، بما أنه يعكس بنية المجتمع، يصرح بالقول: "نستطيع أن ندّعي أن لفظ (قيم) له علاقة بالمُثل الأخلاقية والاجتماعية ... وبالتالي [فهي] ثابتة أو شبه ثابتة" (ص 54)؛ ويختم بأن القيم الأخلاقية "تعلو على جميع القيم الأخرى لأنها لا تتوقف على أي منها. وهي قيم مطلقة لكونها لا يمكن لأي أحد أن يتجاهلها أو يتجاوزها، وهي تستجيب لمطامح الإنسانية، وجميع القيم الأخرى تقع تحتها" (ص 56)
ما الفرق بين القيم والأخلاق والآداب / الإيطيقا ؟ وكيف تُرتَّبُ تنازليا أو تصاعديًا؟ لم نخرج مع الجابري بحدود واضحة لهذه المفهومات. صحيح إن الكتاب في الأخلاق، ولكن المراوحة بين المصطلحات/المفهومات على طول الكتاب هو ما زاد الغموض غموضا؛
قد أعزو ذلك إلى طبيعة ما كان الجابري يريده من هذا العمل، والذي يقرره بوضوح قائلا: "أما نحن فقد أبرزنا غنى الموروث الإسلامي بالكتابات الأخلاقية، غِنًى يبطل ليس فقط حكم المستشرقين المشار إليه، بل أيضا يضع تلك المحاولات التي أرادت الرد عليهم باستخلاص النظرية الأخلاقية من القرآن الكريم في إحراج شديد [لأنها] سلّمت ... ضنيًا وعمليا بخلو التراث الإسلامي من نظريات أخلاقية إسلامية (...) فالمؤلفات الأخلاقية ... كانت وضعيتها وضعية شرود، فلم يكن أيٌ منها قد وُضع في سياق تاريخي كيفما كان لقد كان علينا إذن أن نقوم بهذه المهمة" (ص 623-624) [التأكيد من عندنا].
وبرأيي أن الجابري قد أبدع في رسم ذلك السياق وإعادة تركيبه، وخاصة عندما تمكن من إبراز أهمية آراء العز بن عبد السلام الذي أرجع مبحث الأخلاق في الإسلام "أخيرا، ليرتبط بالدعوة المحمدية كما كان أول مرة"، ونجاحه (أي الجابري) في تفكيكه لإغراءات أسلمة ذلك المبحث في التراث الإسلامي: "أسلمة آداب الفرس (الماوردي)، وأسلمة أخلاق اليونان (الراغب الأصفهاني)، وأسلمة <<آداب السلوك>> الهرمسي (الغزالي)" (ص 260).
كان هاجس الجابري إذن إعادة بناء العقل الأخلاقي في تاريخ الإسلام، ما جعله "يغفل" (لم تكن تلك مهمته) عن حدّ الحدود الفلسفية – الفكرية للمفهومات ومربعات تحركها وسلالمها المنطقية، وإن حاول إدراج فصول للتعريف بها في كتابه، (الفصل الأول من القسم الأول: تحديدات أولية).
(يتبع)
1) محمد عابد الجابري؛ العقل الأخلاقي العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1/ 2001
2)نفسه. ص 7
3)نفسه. ص 8
4)https://www.abaad-foundation.org/نظرية-الأخلاق-القرآنية-وخلاص-البشرية-1
5) عبد الرحمان حسن حبنكة الميداني؛ الأخلاق الإسلامية وأسسها. دمشق: دار القلم، ط1/ 1978. 2 ج
6) الجابري؛ العقل الأخلاقي العربي. ص 15