تغير براديغم الدراسات القرآنية في الغرب ...
و"تناغم الأوهام" 1

(قرآن المؤرخين مثالا تطبيقيا - مجلد 1)

بحوث حول دراسات القرآن وسياقاته
تحت إشراف: محمد علي أمير معزّي & غيوم دياي

عبد الحق الزموري / تونس

تُمثل المقدمة في أي عمل بحثي علمي، وبالأساس في العلوم الإنسانية والاجتماعية، عُصارة تجربة الكاتب في اختياره لموضوعه والأدوات المعرفية والمنهاجية التي اعتمدها والمراحل التي مر بها – صعودا وهبوطا – في إنجاز عمله. ويُعْتَنَى عادة بالمقدمة أيّما اعتناء لأنها المدخل الرئيسي بلا منازع لربط علاقة مع القارئ (أو قطعها).



ويصبح الأمر أكثر إلحاحا وحيوية مع الكتاب – المشروع "قرآن المؤرخين" (Le Coran des historiens)، لأسباب عدة:

1) حجمه: فهو يمتد على حوالي 4 آلاف صفحة، موزعة على مجلدات ثلاثة، ومجلد رابع للمصادر والمراجع المستعملة في الكتاب.

2) عدد الباحثين المشاركين في تحريره، والذي يربو عددهم عن 28 مختصا وخبيرا.

3) طابعه الشامل، في التعرض للدراسات القرآنية في الغرب، حيث نجد فيه دراسات حول الإسلام المبكر، ودراسات عن السياقات التاريخية لظهور الوحي، ودراسات حول القرآن نفسه، وتفسير لكل سور القرآن ...الخ.

لذلك حاولنا التوقف عند هذه المقدمة العامة للعمل (22 صفحة) التي حررها كُلا من المُشرفَيْن على المشروع محمد علي أمير معزّي وغيوم دياي، والتدقيق في التبريرات المعرفية والمنهجية التي حاولا من خلالها بناء مشروعية هذا المؤلَّف.

موضوع الكتاب هو الدراسات القرآنية في الغرب منذ بداياتها في القرن التاسع عشر وإلى اليوم، وهو يعلن عن هدفه بوضوح: "يحاول هذا الكتاب (...) أن يضع بين أيدي القسم الأكبر من الجمهور توليفة عن الدراسات السابقة ونتائج الدراسات المعاصرة [لحوالي قرنين من الزمن] حول الكتاب المقدس للمسلمين". (ص 22)

و بقطع النظر عن نجاحه في هذه المهمة (وهو ما سنتعرض له في فقرة مستقلة)، 2 فإن فلسفة البحث تنطلق من اختيار منهجي دقيق يدّعي أصحابه التمايز عمن سبقهم بإضفاء الصفة العلمية الصارمة على المُنتَج.

ما يفاجئك في هذه المقدمة التركيز المفرط والمتكرر على ذلك الطابع الذي يريد الباحثان إلباسه للعمل، وليس اعتراضنا على محتوى ذلك الطابع، بل على الإصرار على التذكير به في كل ثنايا المقدمة و تعرجاتها. وهو ما يدفعنا إلى العودة لما قاله برنارد نويل عن "التفنن في الحرمان من المعنى عن طريق الإكثار من ترديد الأخبار"، وما يُطلق عليه بمصطلح Sencure (الحرمان من المعنى عبر التعويم) مقابلا لمصطلح Censure (الحرمان من التعبير) وأخطر منه. 3

كما يذهب هذا الأخير إلى أن "وفرة المعاني [المنشورة على نطاق واسع] تَفتَحُ على الحرمان من المعنى الذي تُديره سلطة الاستهلاك وطقوسه، ولا تكون [تلك المعاني] إلا سطحية بالضرورة، وبالتالي غير ذات معنى"

قفزت تلك الصورة إلى ذهني وأنا أعيد قراءة مقدمة كتاب "قرآن المؤرخين" مرّة ومرّة، وتملّكني إحساس بالقلق مما سيأتي من قراءتي لفصول السِّفر الضخم. 

فقد أحصيتُ ما لا يقل عن سبعة مواضع (في 20 صفحة) "يُذكّرُنا" فيها المشرفان بضرورة الاقتناع بأن ما سيأتي مُنجزٌ علمي لا يرقى إليه الشك، ولم يُأتَ بمثله من قبل، وأنه يجب أن يكون مرجعا أساسيا باعتباره "ثورة في براديغم" الدراسات القرآنية !!!

وفي الحقيقة فإن تلك الفكرة التي يريد منا الباحثان تصديقها "دون مُساءلة"، قد صيغت في كلمات وعبارات وتراكيب تدفعنا دفعا في الاتجاه المعاكس، أي نحو "الحرمان من المعنى". وفيما يلي ترجمة لتلك المقاطع المشار إليها:

  1. "بالتشكيك في المصداقية التاريخية لكتابات المسلمين، و بالاعتماد على المصادر غير الإسلامية بشكل ممنهج وشاسع، [حصلنا] على تحول حاسم في [هذه] البحوث". (ص 21)
  2. "(..) بدون التضحية بالصرامة والدقّة العلميتين والتبحّر المعرفي. يتعلق الأمر هنا بسابقة (..) مسالك بحث واعدة جدا". (ص 22)
  3. "إن التدليل على انتماء النص القرآني إلى الثقافة الدينية للكتاب المقدس يمثل مرحلة كبرى أولى وحاسمة في البحث العلمي للقرآن". (ص 25)
  4. "ولكن بعيدا عن تلك الملاحظات [يقصد "أصداء التبشير المسيحي والنبرة المعادية للإسلام" والعبارة له] التي تبقى بالنهاية خفيفة جدا، فإن العلماء المذكورين [أي المساهمين في الكتاب] يعتمدون على معرفة مُبهِرة ومناهج ذات صرامة عالية (...) تحافظ على كامل قيمتها العلمية". (ص 25)
  5. "إن التعديلات والإضافات التي أُدخِلتْ في النص القرآني على أيدي علماء الإسلام المتواطئين مع دوائر الحكم ليُسبغوا على محمد قداسة لم يكن يتمتع بها في الأصل". (ص 26)
  6. "(...) كانت تلك المؤلفات [يقصد التي نشرها تيار ما بعد نولدكه] ذات كثافة عالية، تزخر بالمعلومات والتحاليل المُحفّزة، مبنية على مناهج قوية ومغرية، لذلك شكّلت انعطافة حاسمة في الدراسات حول القرآن وأصول الإسلام". (ص 28)
  7. "ولبلوغ تلك الغاية، اعتمد أولئك الكُتّاب على بعض المعطيات الإبستمولوجية والمنهجية التي لم يعد الشك يرقى إلى دقتها". (ص 33) [التنويه من عندنا]

كيف يمكن لباحث جاد يلتزم بأصول العلم و يتحلى بالتواضع للحقيقة ويحترم شروط الموضوعية والتجرد في مسيرة البحث نفسها، أن يتعامل مع مُنجَزٍ تعتمد مقدمته على ترسانة معجمية مماثلة لإسباغ المشروعية على العمل من ناحية، و إقناعنا بقرار مواصلة القراءة والتفاعل؟ هل تُخفي غابة اغراقنا (في بضع صفحات) بسَيْل المديح لــــ"علمية" ما يأتي رغبة في دفعنا نحو تصديقٍ أعمى، لا يسأل ولا يشكّ، وتكون عِدّته المنهجية والمعرفية بالنهاية أداة لتفريغ المعنى من المعنى؟

ولكن لنترك هذا الادّعاء "المُخاتل"، الذي سنعود له بالتفصيل مع بقية التعليق على محتوى الدراسات التي يتضمنها الكتاب، وننظر في الأفكار الرئيسية الواردة في المقدمة، والتي سطّرت السياجات المنهجية والمعرفية التي التزم بها الباحثون المشاركون.

  • الاستشراق التقليدي، رغم ما قدمه من خدمات جليلة في دراسة القرآن، إلا أنه (برأي المُشرفَيْن على مشروع قرآن المؤرخين) بقي أسير الرؤية الإسلامية في طبيعة القرآن أو في نشأة الإسلام أو في شخص محمد أو في حصر النص القرآني نفسه و نسبته. لذلك يمكن القول إن هذا العمل ينطلق من التشكيك في أن القرآن وحيٌ، وأنه نص كامل متكامل منذ البدء (يذهبان إلى أن فقرات عديدة منه أُضيفتْ لاحقا حسب تطور الإسلام)؛ وأن علماء الإسلام المتحالفين مع الحُكام كان لهم دور رئيس في صيغة المصحف الذي وصلنا: سُوَرًا، وترتيبا، وتاريخا ...الخ.
  • الاستشراق التقليدي، رغم ما قدمه من خدمات جليلة في دراسة القرآن، إلا أنه (برأي المُشرفَيْن على مشروع قرآن المؤرخين) بقي أسير الرؤية الإسلامية في طبيعة القرآن أو في نشأة الإسلام أو في شخص محمد أو في حصر النص القرآني نفسه و نسبته. لذلك يمكن القول إن هذا العمل ينطلق من التشكيك في أن القرآن وحيٌ، وأنه نص كامل متكامل منذ البدء (يذهبان إلى أن فقرات عديدة منه أُضيفتْ لاحقا حسب تطور الإسلام)؛ وأن علماء الإسلام المتحالفين مع الحُكام كان لهم دور رئيس في صيغة المصحف الذي وصلنا: سُوَرًا، وترتيبا، وتاريخا ...الخ.
  • المكانة الكبيرة التي تحتلها الكتابات المقدسة المسيحية واليهودية في نص القرآن، وأن التفكيك الفيلولوجي والنقد التاريخي الصارم لسياقات بنية النص القرآني ارتباطا بالسياقات السابقة هو ما يضفي على هذا العمل علمِيَتُهُ العالية التي لا تُردُّ !!!

وقد انقسم هذا العمل إلى أقسام ثلاثة: مجلد أول يتناول سياقات النص القرآني و تفاسيره، و المجلدين الثاني والثالث خُصصا لتفسير القرآن كاملا، والثالث البيبليوغرافيا المصاحبة.

الانطباع الأولي الذي تتركه قراءة المقدمة هو الحضور الصارخ للأيديولوجيا في هذا المشروع، بقطع النظر عن محتوى الأعمال التي تضمنها، وبالتالي زاد من صعوبة التقبّل كما بيّن مدير عام مرصد باريس للدراسات الجيوسياسية الفرنسي شارل سان برو في تعليقاته على الكتاب إثر ظهوره.

1) تناغم الأوهام مصطلح استعمله لودوفيك فليك في كتابه "نشأة الواقعة العلمية وتطورها" (بالألمانية 1935، ثم ترجم إلى الإنجليزية 1979) الذي يقول عنه مُكتشفُه توماس كون (1962): "عندما يتحدث فليك على نوع من» تناغم الأوهام « فهي استعارة مُضرّة؛ لأنها تُعزز الانطباع بأنه في غياب الضغط الاجتماعي، يكون من الممكن تجنب الوهم ". أنظر عايدة بنكريم؛ "جدل تاريخ العلوم وعلم اجتماعها؛ حول مفهوم الواقعة العلمية لدى لودوفيك فليك". مؤمنون بلا حدود، قسم الفلسفة والعلوم الإنسانية، 24 أفريل 2023، ص 10.
2) يبدو إن عددا من الدراسات الغربية حول القرآن الكريم غابت عن هذا العمل بالرغم من أنها تناولت نفس موضوعات الكتاب
3) Bernard Noël ; L’Outrage aux mots. Paris : P.O.L, éditeur, 2011. p15. Voir aussi Bernard Noël ; Le Sens, la Sensure. Paris : Éditions Talus d'approche, 1985.
4) برنار نويل؛ الموجز في الإهانة. تر. محمد بنيس. المغرب: دار طوبقال للنشر، 2017. ص 5