في محلّ الاعتراف ... والرضا
عبد الحق الزموي / تونس
قيل إن الجاهل لا يُعذَرُ بجهله ... وقد صَدَقَ القائلُ، على أيّ وجه قلّبْتَ القَوْل.
عندما بلغ كتابي الجديد "كرامة الانسان شرط الوجود" مرحلته الأخيرة ودفعتُ به إلى غُرفة الإعداد للنشر، لم أكن قد اطّلعتُ بعدُ على كتاب "الدين والكرامة الإنسانية" للصديق العزيز د. عبد الجبار الرفاعي الذي تربطني به علاقة محبة وتقدير منذ أكثر من أربعين عامًا، وبالتالي لم أُحِلْ عليه في قائمة مراجعي، ولم أستفد مما جاء فيه، وهذا في عُرْف العلم منقُصةٌ وجب تداركها، لأن المعرفة تراكم واعتراف وتجاوز أو لا تكون، خاصة وهو – في حدود علمي – أول من ركّز على هذا البُعد الأصلي للكرامة من علماء الإسلام المعاصرين وأسس عليه فهمه للدين.
الفكرة الرئيسية التي تمحور حولها كتابي (كرامة الانسان أصلية خَلْقية أنطولوجية، وليست مُعطى لاحق، ثقافيًا كان أم اجتماعيًا أم دينيًا أم قانونيًا ...الخ.) نجدها مبثوثة في فصول كتاب الرفاعي، وبشكل تفصيلي، مباشر ومكثف في المقالة السادسة من الفصل الرابع التي عنونها "إنسانية الدين تختصرُها نظرته للكرامة" (ص 227). وإذا كان الكتاب بمجمله محاولة لربط مكانة الانسان بتبيان مظاهر تكريم الدين له، لدرجة الحكم على هذا الأخير من خلال معيار حضور كرامة الانسان في تعاليمه، وبالتالي التركيز على الدين كـــ"علّة أولى للتكريم"، فإن الرفاعي يجد نفسه أحيانا مدفوعا بنزعته الإنسانية (قبل الايمانية) للقول إن "الكرامة قيمة أنطولوجية يتطلبها وجود الانسان من حيث إنسان" (ص 229)، وهذه الفكرة هي جوهر كتابي، وتلمّسها في كتاب الرفاعي هي ما جعلني اشعر بالرضا.
الحُكم على كرامة الانسان كونها قيمةً خَلْقِية أنطولوجية يعني أنها أحد وجهي الكينونة (خلق = عقل – كرامة) وبالتالي تكون سابقة عن الحاجة المتولدة للدين. وكان بإمكان الدكتور عبد الجبار الاستفادة من التمييز اللامع الذي رسمه بين الإنسان "بوصفه كينونة وجودية لا تتغير" و "بوصفه هوية متحولة" للخروج بالكرامة عن سياجاتها الدينية. ولعل وقوفه عند ذلك الحد هو ما ترك سحابة من الضبابية تخيّم على المفهوم، ولم يسمح له بالارتقاء إلى مستوى الكلمة – المفتاح في النص القرآني (كما ذهب إلى ذلك توشيهيكو إيزوتسو الذي يستشهد به الرفاعي ويعتمده في تحليله)، لأنه – على سبيل المثال – يساويه بعدد من احتياجات الانسان (كالحب والأمان والاهتمام والاعتراف والشهرة والسلطة ...) وإن جعلَ "احتياج كل انسان للكرامة يختصر كل هذه الاحتياجات ويتقدم عليها" (ص 229)، ونخشى أن هذا التجاور اللغوي الاصطلاحي في نص الرفاعي يُفقدُ الفكرة الأصلية فرادَتَها ونصاعتَها. ولعل اختيار عنوان رئيسي للكتاب "الدين" مضافا إليه عنوانا مُكمّلا "والكرامة الإنسانية" هو ما أضفى على فقرات الكتاب وفصوله ما يمكن أن نطلق عليه (تجاوزا) حركة الجموح والتربّص؛ وهو أسلوب نجده في أغلب تصانيف الكاتب، ولعلها صورة عن وجدان المفكر الصديق عبد الجبار الرفاعي نفسها في مسيرته الطويلة التي تحكمها المسؤولية الأخلاقية بين البراكسس والنظر. وليس أدلّ على ذلك هذا الكتاب الذي يختم به ثلاثيته التي وصفها أحد الباحثين العراقيين بــ"ثلاثية إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين" (الدين والظمأ الأنطولوجي – الدين والاغتراب الميتافيزيقي – الدين والكرامة الإنسانية).