مراكز الدراسات العربية:
الأولويات البحثية وصناعة العقول؟
عبد الحق الزموري
أصبح لمراكز البحث والتفكير دور متزايد في استيعاب التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية، ورسم خطوط السير للجماعات والدول لتوجيه تلك التحولات والتحكم فيها سواء تعلق الأمر بالاقتصاد أو السياسة أو التكنولوجيا أو الأمن أو المناخ أو غيرها. وقد تعاظمت قوة بعض تلك المراكز (في الولايات المتحدة الأمريكية وأوربا) ليصبح تأثيرها كونيا هائلا، ليس في الأحداث فحسب، بل وفي صناعة العقول والأذواق وتشكيل البناءات النفسية الفردية والجماعية وإنتاج القيمة. أصبحت تلك المراكز أهم محاضن للأفكار، لأنها في قلب دائرة الجامعات (التعليم) ووسائل الإعلام (الترويج) ودور النشر والتوزيع...الخ، تمدّها جميعها بالفكرة وبالخطة (المسار) وبمُخرجات التنفيذ.
ولكن ما نلاحظه اليوم (بداية القرن 21) هو أن محاضن الأفكار تلك، وفي ظل "التطور الدرومولوجي" الكبير، بدأت تتخلى تدريجيا عن وظيفة المـُـــولـّد لإنتاج الفكرة، وتصبح وظائفها حضانة الأفكار الكبرى شبه الجاهزة والموجودة سلفا (كفكرة العولمة، أو فكرة اقتصاد السوق ...الخ)، وتجميع الصُــنـّـاع حولها ومن أجل خدمتها، وتسويق القيم المطابقة لها. نحن أمام توجه ينحو إلى تقليص مساحات التفكير الحر المـُبدع والسير حثيثا نحو تجميع أفكار مُسبقة التوجهات، أي نحو صناعة العقول العامة والأذواق الجماعية وأدوات التفكير طبقـًا لــ"توحيد قياسي" standardisation، عقل نمطي واحد، ومستقبل كوني واحد. وتصبح الغاية البعيدة (وغير المرئية) لتلك المراكز ضرب حرية الإنسان التي ترتـّبت عنها المسؤولية الأولى لتحمـّــله الأمانة (حرية – تحمل الأمانة – مسؤولية).
العرب و"المهمة المستحيلة"
تعتبر البلاد العربية من بين أكثر المناطق "فقرا" في التعويل على مخرجات البحث العلمي واعتماد تلك الوسائل في بناء الإنسان وإدارة شؤونه، لذلك فهو يبقى – ضرورةً – تحت رحمة ما يُخططُ له، وأمام التدخل في أدق تفاصيل تشكيل حياته اليومية والبناءات النفسية والعقلية للفرد والجماعة فيها، خاصة مع استحالة العالم إلى قرية كونية اختصرت الزمان والمكان.
لم تعرف البلدان العربية اهتماما واضحا بمراكز الدراسات ومحاضن التفكير إلا في العقدين الأخيرين. وكانت المراكز الأولى التي أنشئت هنا وهناك قد تزامنت مع الاستقلالات والحاجة إلى بناء مؤسسات الدولة الوطنية، إنْ لجهة تكوين كوادر الدولة أو لجهة التخطيط الاقتصادي والاجتماعي.
وتشير الإحصائيات الدولية إلى أن عدد مراكز التفكير والبحث في المنطقة العربية اليوم ناهز الـــ300 مركزًا، وأن أغلبها الساحق حديث النشأة حتّمَتْهُ التحولات العميقة والشاسعة والعالية السرعة التي تعرفها المنطقة. كما تشير تلك الدراسات الوصفية إلى أن الإحساس بــ"العجز" الذي عرفته النخب العربية أمام الأحداث الكبرى التي عصفت بالمنطقة في السنوات الأخيرة كان كبيرا، لذلك سارعت عديد الجهات الرسمية والخاصة إلى تكوين مراكز بحث ودراسات وسياسات.
عرفتْ السنوات العشرة الأخيرة "انفجارا" في عدد المراكز البحثية الناشئة، سواء تلك المرتبطة كليا أو جزئيا بالحكومات، أو بالمجتمع الأهلي.
وترافق تطور الاهتمام بهذا النوع من النشاط الفكري وتنوع الوظائف التي يؤديها مع اختلاف كبير في التسميات التي تُطلق على تلك المؤسسات، من مراكز بحوث ودراسات إلى مراكز بحث وتفكير، ومخابر أفكار، ودوائر تأثير، ومجمّعات تفكير، وبيوت الخبرة، ودوائر تفكير واقتراح، وخزائن تفكير ... الخ. وكان الخلاف كبيرا حول تلك التسميات، وخاصة حول إعطاء صفة الثنك تانكس على تلك المراكز.
مراكز الدراسات العربية التي ظهرت الى حدود سنة 2000 نشأت (في أغلبها الساحق) في حضن الدولة وتحت سلطتها، وكانت تعمل أساسا ضمن أجندات الاستقلال والبناء الوطنيين من تنمية اقتصادية واجتماعية، وكانت بالتالي تقوم بوظيفتين رئيسيتين: تكوين نخب وطنية تحتاجها مختلف أجهزة الدولة (صناعة الرجال)، وبناء أفكار وتصورات عامة يهتدي بها المجتمع في صياغة عقله، ويعتمدها مختلف الفاعلين في رسم سياسات إدارة الشأن العام. ولكن التحولات الكونية الضخمة التي عرفها العالم مع بداية الألفية الثالثة، دفع إلى ظهور الحاجة الملحة لتغيير بوصلة النظر والبحث عن أجوبة وجودية وغائية كبرى للكينونة.
بعد 2001 تأسست مجموعة من محاضن الدراسات التي تبحث في السياسات العامة وترصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وهي مراكز تختلف في مواضيعها وطرق عملها عن المراكز البحثية التقليدية.
هناك من الباحثين من يفُرِّقُ بين مراكز الدراسات ومراكز الفكر من حيث الوظيفة، فالأولى تهدف إلى تقديم تحليل أكاديمي وموضوعي صرف، أما الثانية فهي تستهدف توجيه صانعي ومتخذي القرار إلى حلول أو رؤى معينة لمشكلة ما، أي أنها تنخرط في صنع القرار السياسي.
وقد انتشر تعريف برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لهذه المراكز انتشارا واسعا، فهي بالنسبة إليه "هيئات وسيطة بين المعرفة والسلطة، أو بين السياسيين والأكاديميين. يحتاج السياسيون إلى أفكار خلاقة وإلى توصيات مبنية على مناهج علمية، في حين يحتاج الأكاديميون والمحللون السياسيون إلى من يطبق نتائج أبحاثهم على الأرض ويختبرها". وقد استقر هذا التعريف لاحقا وتبنته مراكز البحث والتفكير في العالم كله، حيث نجد في تعريف "مؤشر خزائن التفكير" الذي تصدره جامعة بنسلفانيا الأمريكية أن تلك المراكز هي "منظمات تحليل السياسات العامة ومنظمات المشاركة التي تولّد بحوثا وتحليلات ومشورة موجهة نحو السياسيين المهتمين بالقضايا المحلية والدولية، ونحو الجمهور لاتخاذ قرارات مستنيرة بشأن قضايا السياسة العامة".
وقد حاول بعض الباحثين العرب، منذ ثمانينات القرن الماضي، جلب الانتباه الى ضرورة ترشيد عقل السلطة العربية عبر الاستفادة من استشارة الجامعيين والباحثين في رسم سياساتهم، ومن بين هؤلاء نذكر كتاب سعد الدين إبراهيم "تجسير الفجوة بين صانعي القرار والمفكرين العرب" الصادر عن منتدى الفكر العربي بالأردن عام 1984. ولكن تلك الأصوات لم تستطع اختراق عقل السلطة العربية بشكل كبير (يبقى مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت من الاستثناءات القليلة). وبقينا نترقب العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين لنلاحظ بوضوح تفعيل تلك الرغبة في التلاقي لدى الطرفين (صناع قرار / أكاديميون) من خلال ظهور عديد المراكز البحثية المستقلة والمتعاونة مع السلطات القائمة (مثل مركز الدراسات والأبحاث بالمغرب / المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات بقطر / مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة بالإمارات العربية المتحدة /...الخ).
مراكز التفكير العربية الجديدة: نعمة ملغومة؟
إن اهتمامنا بمساءلة طبيعة عمل هذه المراكز الجديدة ووظائفها، وبالتالي الدور الذي تقوم به، يدفعنا إلى البحث عن مدى "إبداعية" المقاربات والحلول التي تقدمها لواقع شعوبها (ما نطلق عليه التفكير من داخل الصندوق أو من خارجه) ومدى استقلاليتها في بناء أجنداتها البحثية.
وسننطلق في تساؤلاتنا من تصنيف مراكز البحوث في العالم الذي تصدره جامعة ماك كاين بنسلفانيا سنويا منذ سنة 2008 الى اليوم.
لماذا تقرير جامعة بنسلفانيا؟
انطلق التقرير منذ عشر سنوات في رصد وتحليل واقع مراكز البحث والتفكير في العالم، سواء الحكومية منها، أو المستقلة (مجتمع مدني)، أو الجامعية، أو التابعة للأحزاب السياسية أو التكتلات الاقتصادية. وتثمين تلك المراكز ومنتجاتها عبر تصنيفها الذي يشارك فيه ما لا يقل عن 4 آلاف خبير حول العالم، ويشمل حوالي 8 آلاف مركز. ويعتمد التصنيف على 28 معيارا نُحوْصِلُها كما يلي:
-
مستوى الجودة البحثية لما تنتجه هذه المراكز من بحوث وتقارير وأوراق،
-
عدد الندوات والمؤتمرات التي تديرها على مدار العام،
-
القدرة على الـتأثير في الرأي العام وصُنَّاع القرار
-
دورها في رسم السياسات العامة في البلدان والمناطق المتواجدة فيها.
-
القدرة على الوصول إلى شرائح واسعة من الجمهور من خلال وسائط النشر المتعددة كالمطبوعات والنشر الرقمي وعبر البث الحي لأنشطتها البحثية،
-
سمعة باحثيها وتكوينهم العلمي ومستوى مشاركتهم كخبراء ومحلِّلين في المحافل البحثية الدولية وفي وسائل الإعلام،
-
ما تتمتع به هذه المراكز من استقلالية مهنية، واستقرارٍ في مواردها المالية وكفاءتها الإدارية.
وبمناسبة صدور التقرير السنوي لعام 2017، أقيمت احتفالات متزامنة بذلك الحدث في 100 دولة حول العالم، وهو ما يعطيه سلطة رمزية كونية، وأصبح يُنظر له باحترام كبير سواء من الحكام وصنّاع القرار أو من الجامعيين والأكاديميين، أو من الفاعلين في المجتمع المدني أيضا.
وبحسب نسخة التقرير لهذا العام، بلغ عدد المراكز العربية المدروسة حوالي 250 مركزًا، لم تدخل في التصنيف سوى 59 مركزا من بينها.
لا شك أن التقرير لم يرصد كل مراكز الأبحاث في منطقتنا (ولا حتى أغلبها)، ولكن المدقق فيه يجد نفسه مجبرًا على التحفظ حول بعض استنتاجاته، وعلى طرح التساؤل حول عدد مما يبدو أنه "تساهلٌ" في تطبيق المعايير المتّبَعَة في الترتيب.
لا شك أن مؤشر جامعة بنسلفانيا كان رافعة ذات تأثير حاسم في توجهات البحث العلمي في المنطقة العربية وفي مستواه الأكاديمي وقابلية مُنتجاته للتطبيق، وفي اقتناع صنّاع القرار أيضا بضرورة الاعتماد على تلك المخرجات. كما ساهم تأسيس فروع لمراكز تفكير عالمية ضخمة في البلاد العربية (على غرار بروكينغ الدوحة وكارينغي بيروت ...الخ) في التشجيع على بعث المراكز المشابهة وفي الرفع من القيمة العلمية والنجاعة الميدانية لمخرجات البحث العلمي. أصبح الاهتداء ببوصلة مؤشر بنسلفانيا وعيًا ثقافيا وسياسيا متزايدا في البلاد العربية، وأصبحت الوظيفة / الدور الموكول لهذه المراكز الجديدة تمكين صانع القرار من رأي يستجيب لتعدّد السيناريوهات والتوقّعات ويستند إلى معلومة دقيقة وخبرة عالية؛ وكما يقول د. منتصر حمادة، مدير "مركز المغرب الأقصى للدراسات والأبحاث"، فإن تأسيس تلك المراكز يندرج "في سياق السائد عالمياً مع معالم وأسباب التأسيس، أي تقديم المتابعة البحثية لقضايا الساحة، بحسب طبيعة اهتمامات ومشاريع هذه المراكز (كأن تكون متابعة قضايا سياسية أو استراتيجية أو أمنية أو دينية.. إلخ)، وضمن تبعات هذا التأسيس، تقديم خدمة لصنّاع القرار".
من الفكرة الى السياسة .. أو التفكير داخل الصندوق .. مجددا
كانت مراكز البحث والدراسات العربية منذ ثمانينات القرن الماضي تدور في بحوثها (غالبا) حول موضوعات عامة كالدولة والدين والهوية والأسرة والتعليم وغيرها. وكانت تلك الموضوعات أو المسارات البحثية العامة محكومة بمناخات واقع التعليم العالي والبحث العلمي في بلداننا. ليس خافيا أن البحث والتطوير في البلدان العربية بشكل عام يعاني من ثلاثة عوائق رئيسية (وإن بشكل متفاوت):
-
ضعف حجم الإنفاق الحكومي عليه قياسا بالناتج المحلي الإجمالي، فهو يقل عن 0.8% في المغرب وتونس، وعن 0.5% في مصر والأردن، وعن 0.2% في السعودية والجزائر والعراق والكويت، (مؤشرات سنوات 2010 – 2015)
-
غياب الحرية في التفكير والتعبير والتطوير سواء في المدخلات أو المخرجات
-
ارتباط ذلك الإنفاق بميزانية الدولة وضعف علاقته بالقطاع الخاص
ولكن المشكل الأكبر الذي يعاني منه البحث العلمي في بلداننا – بحسب رأينا – هو صعوبة التفكير "من خارج الصندوق".
ومن سمات التفكير من داخل الصندوق في مجال البحث العلمي ومراكز البحث والتفكير تخصيصا، هو "القبول الضمني بمحدودية الحرية الأكاديمية من خلال الرقابة الذاتية أو الرقابة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية"، وهو ما يزخر به الواقع الأكاديمي العربي في مختلف مؤسساته.
وبذلك يصبح التفكير من خارج الصندوق هو التحدي الأكبر أمام أهل النظر وصناع الفكرة، فـ"مايك فانس" يؤمن أن الطريق الوحيد للنجاح هو (الإدارة عن طريق القيم)، لأن "بيروقراطية وسياسة الشركات الكبرى مجرد إغراءات" ولأن "البيروقراطيين والسياسيين يجعلون الأفراد يدينون لهم بالولاء والإخلاص" بدلا من الإخلاص لتلك القيم.
وإذا طبقنا تلك المقاربة على مراكز التفكير العربية في نسختها الجديدة، طالعتنا مشكلة الاستقلالية كأبرز موضوعة تعاني منها تلك الجماعات، ونحن لا نقصد هنا الاستقلالية عن السياسة أو الأيديولوجيا أو التمويل، وقد فصّل فيها عديد الباحثين الذين تناولوا تلك الموضوعات؛ ما نقصده قدرة العقل في تلك المراكز على التحرر من "الأنماط المستقرة" في طرائق التفكير والتحليل والاستشارة.
كانت المراكز البحثية العربية (بأنواعها) في بدايات تأسيسها تعمل على صناعة العقول ومحاولة إنتاج المعنى. ومع بداية الألفية الجديدة وسهولة تخطي كثير من الحواجز التي تعيق التأمل والبحث والتعبير كان المــــُفتَرضُ أن تُبنى محاضن التفكير الجديدة على قواعد النقد الجذري والتحليل التفكيكي والإبداع النظري والعملي لطرائق مختلفة في مقاربة واقعنا وتقديم حلول مبتكرة لمشاكل البشرية وقضاياها.
نلاحظ هنا انزياحا تدريجيا في وظائف وأدوار تلك المراكز من محاضن تفكير وإنتاج معنى وصناعة عقول، الى مجمّعات تفكير تتبنّى مقاربات وقيم بحثية وأولويات اشتغال جاهزة وتعمل على التسويق لها. نحن هنا – بشكل من الأشكال – نرضخ للسهولة وللرغبة فيما نعتقد أنه تغيير سريع وحاسم في واقعنا السياسي والاجتماعي، وأنه إجابة للأسئلة الحارقة والحاجات المستجدة التي يواجهها صناع القرار.
ويمكننا – بسهولة – ملاحظة الفارق الكبير بين طبيعة تلك المراكز في العقود الأربعة السابقة عن 2001 وما بعدها؛ طبيعة تُحدّث عن نفسها في التخلي التدريجي (والسريع) عن الأفكار نحو السياسات، وعن "صناعة" العقول الى التأثير في القرار، وعن إنتاج المعنى – القيمة الى الترويج لمصفوفات من الحلول الجاهزة والبدائل المعولمة. لم تعد الأسئلة / الأولويات البحثية للموجة الجديدة من المراكز (في أغلبها) تنبع من حاجة الواقع العربي (في بعده المحلي أو في علاقته بالعالم)، بل أصبحت متداخلة ومتشابكة مع غيرها من المراكز في العالم في حركة من التعقيد بالغة؛ فهل الأسئلة الـــ"مُعولمة" هي ترجمة عن عودة الإنسان إلى تجريب الأجوبة الأولى المرتبطة بسر وجوده في الكون؟ وهل يحتاج الإنسان العربي إلى أن تكون أسئلته ومُخرجاتها محلية مخصوصة به؟
نحن هنا أمام مشهد تفكيري تحشر فيه مراكز التفكير نفسها "داخل الصندوق" من جديد، وتتخلى عن حريتها في اجتراح حلول أفكار وابتكارات جديدة لواقع محلي متغير وفارق. وتتحول مع الزمن من صياغة الفكرة ضمن الممكنات الخاصة، وصناعة العقول الرائدة، وإنتاج (أو إعادة تدوير) القيم الهادية للجماعات، الى مراكز استشارات وتأثير في صناعة القرار في بلداننا، بحسب حاجيات وأولويات ومصالح قوى ليست بالضرورة محلية.
*****
ولأننا في حاجة إلى معرفة علمية دقيقة لدور تلك المراكز في المنطقة العربية وأكثرها تأثيرا في صناعة العقول وإنتاج القيم وترويجها في مجتمعاتها المحلية، اقترحنا القيام بدراسة عدد منها: توجهاتها وأولوياتها البحثية، هوية الفاعلين المعنيين ببناء العقول فيها، طرائق عملهم، والخلفيات الشبكية التي ينتمون إليها أو التي ينسجونها.
وقد قمنا بدراسة أهم تلك المراكز العربية (أنظر القائمة أسفله)، واخترناها طبقا للمعايير التالية:
-
أن يكون مقر الإقامة الأصلي في إحدى تلك الدول،
-
أن يحصر اهتمامه بشؤون المنطقة،
-
أن يكون تأسيسه قبل سنة 2010 م (باستثناء مؤسسة مؤمنون بلا حدود في المغرب)
وقد شكلنا لذلك فريقا بحثيا من الجامعيين الشبان القادمين من بلاد عربية مختلفة، ومن اختصاصات علمية متنوعة (علم اجتماع؛ قانون؛ علوم سياسية؛ علوم تربية؛ حضارة ...الخ)، وبالتالي مقاربات متعددة. كما تركنا لهم حرية اختيار مناهج التحليل المعتمدة، على أن تلتزم الدراسات بالتعرض إلى:
-
قراءة تحليلية لمنتجات المركز (المباحث / التوجهات الكبرى / الأولويات / السياقات / المسارات / الخلاصات)
-
الانتشار والتشبيك داخليا وخارجيا والقدرة على استثمار ذلك في إحداث تأثير إجتماعي وثقافي وسياسي ... الخ
-
الانعكاسات / التأثيرات المجتمعية في صنع الأفكار وإنتاج (تدوير) وتسويق القيم والتأثير في اتخاذ القرار في أي مستوى من مستويات النشاط المجتمعي
على أن يحاول الباحث اختبار مدى التطابق بين الهوية – الغايات المعلنة مع المنتَج المدروس.
كما قمنا بتصنيف مزدوج لتلك المراكز حتى تكون ممثلة للنماذج المعروفة عالميا؛
التصنيف الأول الذي تتوزع عليه المراكز المدروسة: مراكز بحثية حكومية / مراكز مستقلة (مجتمع مدني أو استثمار خاص) / مراكز أجنبية
أما التصنيف الثاني فتتوزع المراكز فيه إلى مراكز بحوث وأفكار، ومراكز تفكير (ثنك تانكس) / ومراكز شبه شبه.
****
لا ندعي هنا أننا أول من تناول موضوع مراكز البحوث بالدرس والتحليل، فقد سبقتنا أعمال جديرة بالاحترام والتنويه، ولكننا نعتقد أن زاوية المقاربة التي اخترنا طرقها في دراستنا هذه غير مسبوقة بهذا الحجم والعمق.
ولا نهدف من هذه الدراسات التقليل من الجهد المبذول في تلك المراكز ولا من إسهامات باحثيها، بل على العكس من ذلك، نعتقد أنها – جميعا وبلا استثناء – قد ساهمت بشكل من الأشكال في بناء بلداننا وإثراء الإنتاج الفكري فيها وبناء باحثين كبار.
هدفنا من هذا السِّفْرُ (وهو ملخص لحوالي 800 صفحة) طرْحُ بعض الأسئلة ومتابعة بعض التغييرات التي تعرفها مراكز الأبحاث والدراسات العربية: كيف تُبنى الأولويات البحثية فيها؟ هل تُصنع المعرفة في الفضاء العربي انطلاقا من حاجيات محلية أم بفعل تأثيرات خارجية؟
كما نسعى – من خلال مركز أبعاد للمستقبليات – إلى التعاون مع تلك المراكز ومع غيرها والتشبيك معها لمحاولة إعطاء البحث العلمي في البلاد العربية دفعًا جديدا يحتل به المكانة المفترضَة. ونعِدُ بنشر تلك الدراسات كاملة في كرّاسات المركز وعلى موقعه الإلكتروني في وقت لاحق لتعميم الفائدة وفتح النقاش والجدل حولها.
وإني إذ أشكر الباحثين الذين ساهموا في هذا العمل، لا يفوتني أن أنوه بجنود الخفاء الذي تكفّلوا تطوعا بتكاليف إنجاز هذه الدراسة، فلهم منا كل الاعتراف بالفضل على ثقتهم ودعمهم. والله من وراء القصد
*) نقصد بالتوجه تقدير ما يغلب على نشاط المركز
1) بول فيريليو؛ السرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة. تر. محمد الرحموني. بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017
يعلن المؤلف منذ البداية أن كتابه يعدّ “مقالة في الدرومولوجيا”Essai de Dromologie. وهي عبارة نحتها المؤلف انطلاقا من اللفظة اليونانية Dromos التي تعني “مضمار السباق”كما تعني “الطريق التي تربط بين معبدين”. لذلك يمكننا ترجمتها مبدئيا بـ “علم السرعة”.
دراسة إنسان القرن العشرين وبدايات القرن الواحد والعشرين من جهة علاقته بالزمن من زاوية السرعة (الحيوية) وليس من زاوية المدة (الوقت) كما في السابق.
2) 2017 Global Go To Think Tank Index Report. James G. McGann, University of Pennsylvania. p 11
3) UNDP; Thinking the unthinkable. Bratislava, Slovak Republic: United Nations Development Program, 2003. 234 p
4) McGann, James G., "2017 Global Go To Think Tank Index Report" (2018). P 11
5)
6) منتدى العلوم الاجتماعية التطبيقية بتونس؛ الاتجاهات البحثية لرسائل الدكتوراه في الجامعات العربية. ج 1 / 2016. ص 14
7) مايك فانس / ديان ديكون؛ التفكير خارج الصندوق. الرياض: مكتبة جرير، ط1 / 2002. ومايك فانس هو مدير جمعية التفكير الإبداعي الأمريكية