نظرية الأخلاق القرآنية وهداية البشرية (1) "

أتذكر أني تصفحتُ الكتاب أكثر من مرة أثناء دراستي الجامعية بدار المعلمين العليا نهاية السبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، ولكني أعود للتمعن فيه اليوم وكأني أقلّبُ صفحاته لأول مرة. لا شك أن ذلك يعود إلى اهتماماتي بمساءلة القيم الإنسانية، ومصفوفات الظلم والإهانة والهيمنة التي تنتظم حياة الانسان المعاصر في كثير من مناشطه.

يقول دراز في بداية كتابه: "إن نظرة سريعة نلقيها على مؤلفات علم الأخلاق العام التي كتبها علماء غربيون كافية لنلحظ فيها فراغا هائلا وعميقا، نشأ عن صمتهم المطلق عن علم الأخلاق القرآني" (ص 2). ولكنه يقرر أيضا إن الأخلاق القرآنية لم تكن "الموضوع الرئيسي للدراسة والتقنين لدى المسلمين أو المستشرقين، لا من الناحية النظرية ولا من الناحية العملية" (ص 4).

أحدث كتاب دراز رجّة ثقافية بالغة، ما جعل عددا من الباحثين ينتهجون نهجه، ويسيرون في طريقه، مثل الباكستاني داود رهبر (1926 – 2013) الذي ناقش رسالة دكتوراه في جامعة كامبردج عام 1953، ونشرت عام 1960 تحت عنوان (God of Justice: A Study In the Ethical Doctrine of The Qur'ān)، والعراقي صالح هادي الشماع في رسالته للدكتوراه التي ناقشها في جامعة أدنبره بألمانيا تحت عنوان (The Ethical System Underlying the Qurʾān: A Study of Certain Negative and Positive Notion) ونشرت عام 1959؛ والياباني توشيهيكو إزوتسو (1914 – 1993) في عدد من أعماله، ولكن بالأساس في كتابه (The Structure of the Ethical Terms in the Koran; A Study in Semantics) الصادر عام 1959، قبل أن يطوّره ويعيد نشره عام 1966 تحت عنوان (Ethico-Religious Concepts in the Qur'an) والذي عرّبه عيسى العاكوب ونشره سنة 2017 بعنوان "المفهومات الأخلاقية – الدينية في القرآن". كما نشر الباكستاني فضل الرحمان مالك (1919 – 1988) كتابه Major themes of the Quran عام 1980، قبل أن ينقله محمد أعفيف إلى العربية في 2013 تحت عنوان "المسائل الكبرى في القرآن الكريم"، كما أنه تناول موضوعة الأخلاق القرآنية في دراسات لاحقة، ومنها (Law and Ethics in Islam) (1983) و (Some Key Ethical Concepts of the Qurʾan) (1984)؛ وكذا جورج فضلو حوراني الذي اهتم كثيرا بالموضوع ونشر عنه دراسات عديدة، منها عام 1980 (Ethical presuppositions of the Qurʾān). وقد أصبح مبحث الدراسات الأخلاقية والقيمية من وجهة نظر الإسلام والقرآن تحديدا رائجا في العقود الثلاثة الأخيرة في الغرب، وبشكل أقل في العالم الإسلامي والعربي.¹

اهتمامنا في مؤسسة أبعاد للدراسات المستقبلية بمسألة القيم والمصفوفات الأخلاقية الإنسانية في القرون القادمة، هي التي تدفعنا إلى مساءلة النظرية الأخلاقية

القرآنية، ومحاولة الكشف عن اختلاف مستويات المعنى والفهم بين القيم والأخلاق والإيطيقا والآدب ... الخ.، وما يترتب عن ذلك من سلوكات ومنظومات قانونية واجتماعية؛ وننطلق في ذلك من تقرير محمد عبد الله دراز الذي يفسر غياب تلك النظرية الأخلاقية في الكتب التي تناولت مفهوم الأخلاق في الغرب والشرق بالقول إن "النصوص القرآنية ذات المغزى الأخلاقي قد غرقت بطريقة غامضة وسط نصوص تتصل بموضوعات فقهية أو أصولية أو كلامية أو كونية أو غيرها". ²