نظرية الأخلاق القرآنية وهداية البشرية (2)
الخلط بين المفاهيم طريق "لانحراف" البوصلة
عبد الحق الزموري / تونس
عندما تحاول رسم خارطة للمشتغلين بمجال القيم عموما في النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات الألفية الثالثة، تصطدم بكم هائل من الخلط بين مصطلحات القيم والأخلاق والايطيقا والأدب، واستعمالها – في أحايين كثيرة – كمترادفات بعضها للبعض الآخر، أو كمصطلحات لا تمنع الاختلافات الجزئية (الطفيفة) بينها من أن تتجاور في الاستعمال دون استشعار أي حرجٍ أو تناقض أو قلق1، بل ويذهبون (للتخلص من الإحساس بالورطة) إلى استعمال المفهومات المركبة كذاك الذي يعبّر عنه مصطلح القيم الأخلاقية، أو الالتجاء إلى التفريق بين الأخلاق من جهة والأخلاقية والإيطيقا من جهة أخرى... الخ.
ويمكنك التأكد من ذلك على سبيل المثال من عناوين الكتب العربية التي تحويها "بيبليوجرافيا الأخلاق والقيم" التي نشرها مصطفى سيد محمد في مجلة المسلم المعاصر وتمسح الفترة 1882 – 2019 (يظهر مصطلح القيم في أقل من 12 % من مجموع 337 عنوانا من عناوين الكتب العربية في القائمة)2؛ كما يمكننا سَوْقُ نفس الملاحظات حول "بيبليوجرافيا الأخلاق والقيم الأخلاقية" التي نشرها كرسي الأمير نايف بن عبد العزيز للقيم الأخلاقية بجامعة الملك عبد العزيز (السعودية) عام 1437 هــ، وكذا الأمر بالنسبة للقائمة المختارة التي نشرها مركز خطوة للتوثيق والدراسات حول القيم والأخلاق في أوت 32019. ولكن الأمر لا يتعلق بالعرب فحسب، لأن عددا من الفلاسفة الغربيين لا يرون فصلا على سبيل المثال بين الأخلاق والإيطيقا إلا في الجذر اللغوي الذي يعود كل منهما إليه، وبالتالي فلا فرق جوهريا بينهما من حيث المضمون (الفيلسوف لوك فيري)4. وهذا الأمريكي عبد العزيز ساشيدينا (جامعة جورج ماسون بفرجينيا) يقول عن أولى كتابات المسلمين حول الأخلاق: "Kuluq essentially refers to ethics or morals"، جاعلا الأخلاق والايطيقا واحدًا5؛ وهي نفس الإشارة التي ساقها 6جرموني عند تقديمه للتعريف الاصطلاحي للقيم: "فإن القيم تُطْلق على كل ما له قيمة ويرغب الإنسان فيه، وهو ما يتطابق مع مفهوم الأخلاق".
وإذا كان زيغموند باوماند يرسم سياقات تحليله للأخلاق زمن الحداثة السائلة، بإقراره إن الروابط الإنسانية أصبحت – مع الألفية الجديدة – "ضئيلة وهشّة، سهلٌ كسرُها وقصيرٌ عمرُها في الاغلب"7، مبررا "سيولة" القيم المعاصرة، إلا أنه يمكن القول إن عددا من الباحثين قد تفطنوا إلى خطورة عدم التمييز بين تلك المفاهيم وحدّ حدودها، وبحثوا في الثابت المطلق منها والنسبي المتحول فيها.
يعرض علينا عادل العوا – منذ وقت مبكّر (1986) – تاريخا تفصيليا للقيم (القيمة والقيم): مصطلحا، ومفهوما، وفلسفة أو علمًا، وتيارات، وممثلين، وسلالم تصنيف ... الخ8. وهو يتناولها في سياق الفكر الغربي، ولكن بالعودة بها إلى الحقبة اليونانية. وحتى إن تعرض إلى بعض آراء المسلمين في المسألة (الغزالي والماوردي) في إطار فقرة النهج الديني في الفصل الثامن (مبحث القيم)، إلا أنه لم يبرح سياقات التعريف والتصنيف والترتيب الغربي، باعتبار انتماء مفهوم القيم وفلسفة القيم -عنده – إلى سياق العصر الحديث، يقول: "إن الإجابة عن مشكلة القيمة لم تطرح بصورة معزولة عن سواها إلا في العصر الحديث حين حرص الباحثون على استقلال هذه المشكلة عن سائر المشكلات الفلسفية والميتافيزيقية المحضة"9، ويختار منذ البداية الانطلاق من "اعتبار مفهوم القيمة مفهوم نشاط ذهني يتصور أمرًا ذا شأوٍ 10ويسميه قيمة".
وعلى هذا التعريف سار عدد كبير من العرب، بقطع النظر عن مرجعياتهم الفكرية والدينية، وإن اضطُروا لاحقا إلى مخالفة المنطلقات لفضاءات أخرى في التعامل مع المسألة؛ وعلى غرار هؤلاء نجد عبد الله الفَيْفي في كتابه "نقد القيم"11، الذي خصصه لمناقشة "موسوعة القيم ومكارم الأخلاق العربية الإسلامية" التي أصدرتها جامعة الملك عبد العزيز بالسعودية عام 2000، والتي شارك فيها عدد كبير من الباحثين والخبراء، وصدرت في 52 جزءا. يَصدُرُ الفيفي عن قاعدة نسبية القيم وتحولها، لأنه يقول إن: "مَعْيَرَة القيم هو حَملٌ للمتحوّل على الثبات، بل هو سعي إلى تجميد القيمة المفترض فيها الحراك والتطور في قوالب معيارية تستعصي على الحراك والتغيّر" (ص 28)، وهو الرأي الذي ما فتئ يكرره على كامل صفحات كتابه: "القيمة – كما تقدم – يفترض فيها أن تكون عُملة متحولة متغيرة بتغير الزمان والمكان والانسان" (ص 45)، وهو في كل ذلك يعتمد على عدد من فلاسفة الأخلاق الغربيين قاعدة إبستيمية لا يحيد عنها.
إن نسبية القيم وإطلاقيتها، أي تحوّلها وثباتها، هما المشكلتان التي ارتكزت عليهما كل المشاكل والاختلافات اللاحقة، والخَوْضُ فيهما – برأينا – هو ما أدى إلى الخلط بين مستوياتها وحدودها. لذلك ذهب بعضهم إلى أن "الثبات وصف للقيمة في ماهيتها، والقابلية للزوال وصف للظاهرة التي تحملها، والتي يُحققها فيها فعل واعٍ حرٌ"12، وبالتالي يذهب إلى تبني نظرية لوسين Le Senne في كتابه Obstacle et valeur، ولافيل Lavelle في مؤلفه Traité des valeurs. المشكلة إن جميع هؤلاء كانوا ينطلقون من نتيجة الجدل الغربي حول فلسفة الأخلاق، والتقسيمات والاختلافات والتقييمات والحدود التي يرسمونها، ثم بعد ذلك "يركّبون" عليها نظرتهم وتراثهم المحلي.
ولعل ذلك هو السبب الذي دفع بعض الباحثين إلى التنبيه على "أشكَلَةِ" ذلك الخيار المنهجي، طارحا تفكيك تلك الآليات، منتقدا مسألة نسبية القيم التي عَزَا القول بها إلى 13"حرب المصطلحات"، واعتبر أن القيم: "تمثل الطبيعة الذاتية للخلق الإنساني كنوع"، وبالتالي "فهي ثابتة بثبوت نوعه وجنسه"،
برأيي أن أمران أساسيان ساهما في الخلط والتداخل والضبابية لدى المسلمين، والعرب بشكل خاص، بين مصطلحات – مفهومات القيم والأخلاق والإيطيقا ... الخ. أولهما ما تعرضنا له سابقا من انطلاق هؤلاء من الحدّ الذي رسمه فلاسفة الاخلاق الغربيين، واعتبارهم علم القيم كمبحث مستقل علما معاصرا، والبناء على نقاشاتهم وتصنيفاتهم وتعريفاتهم.
والثاني ارتكازهم إلى ربط القيم بالقيمة المادية (الثمن)، واعتمادهم على تعريف العرب لها بالقول إن "قيمة كل امرئ ما يُحسنُ"، وعادوا إلى الجذع اللغوي في القرآن 14لدعم وتبرير فكرة القيمة المادية المتغيرة، أساسا للتعريف، وبناء عليها.
ورغم أن عبد الله دراز كان قد نبّه – منذ منتصف القرن العشرين – إلى ضرورة الانطلاق من الرؤية القرآنية لرسم معالم فلسفة الأخلاق في الإسلام، وحد حدودها، ووضع تعريفات لمصطلحاتها15، إلا أن الباحثين لم يتوجهوا بقوة إلى ذلك الرأي إلا منذ عقد ونيّف من الزمن، حيث توالت الدراسات العلمية الفردية والجماعية في عدة أنحاء من العالم، المنطلقة من الرؤية القرآنية للكون وللإنسان، لاستخراج منظومة القيم الإنسانية، ووضع سلالم أخلاقية لها.
(يتبع)
1) بين أيدينا قائمة بيبليوغرافية طويلة (وبلغات مختلفة) تُترجمُ أنواع ذلك الخلط أو تَعْرِضُ لمظاهر منه وتبحث في أسبابه، سنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
- أحمد عبد الحليم عطية؛ الأخلاق في الفكر العربي المعاصر. دراسة تحليلية للاتجاهات الأخلاقية الحالية في الوطن العربي. القاهرة: دار الثقافة، 1989.
- فهمي محمد علوان، القيم الضرورية ومقاصد التشريع الإسلامي. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 198
- طه عبد الرحمان؛ سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المغرب: المركز الثقافي العربي، 2000.
- طه عبد الرحمان؛ سؤال الأخلاق مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. المغرب: المركز الثقافي العربي، 2000.
- عبد الوهاب جعفر؛ فلسفة الأخلاق والقيم. دار الوفاء للطباعة والنشر، 2013
- معتز الخطيب؛ "آيات الأخلاق": سؤال الأخلاق عند المفسرين. Journal of Islamic Ethics 1 (2017) 83–121
- معتز الخطيب؛ مدخل إلى دراسة تاريخ الفكر الأخلاقي في مصر في سياق مشاريع الإصلاح والنهضة. مجلة تبين؛ العدد 7 / 26 خريف 2018. ص 85 – 109
- إسماعيل عبودي؛ مقاربات القيم في الإسلام، مراجعة نقدية. إثارة، 16 مارس 2020. https://atharah.net/approaches-to-values-in-islam/
- محمد فيصل شيخاني؛ القيم والأعراف الأخلاقية في الحضارة العربية الإسلامية: دراسة تاريخية وتربوية تحليلية. حمص: [د. ن.]، 1970
- الربيع ميمون؛ نظرية القيم في الفكر المعاصر بين النسبية والمطلقية. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1980
- يوسف مريمي؛ في العَلاقَة بين الإِتِيقَا والأَخْلاَقِ. دورية نماء، 27 سبتمبر 2023
- زيغموند باومان؛ الأخلاق في عصر الحداثة السائلة. ترجمة سعد البازعي وبثينة إبراهيم. أبو ظبي: مشروع كلمة، 2016 محمّد أمين بن جيلالي؛ الإتيقا، نقد المفهوم وتحوّلاته في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة الغربيّة. النجف: المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية بالعتبة العباسية المقدسة، 2021
- Ḥadīth and Ethics through the Lens of Interdisciplinarity. Edited by Mutaz al-Khatib. Studies in Islamic Ethics, Leiden: Brill, Vol 5, 2022
- Ramon Harvey; "Qurʾanic Values and Modernity in Contemporary Islamic Ethics Taha Abderrahmane and Fazlur Rahman in Conversation". Edited by Mohammed Hashas & Mutaz al-Khatib. Studies in Islamic Ethics, Leiden: Brill, Vol 3, 2020. pp 150 – 169
- Khaled Abou El Fadl; Qurʾanic Ethics and Islamic Law. Journal of Islamic Ethics 1 (2017) 7–28
2) مصطفى سيد محمد؛ "بيبليوجرافيا الأخلاق والقيم". مجلة المسلم المعاصر، ع 172 – 173، يونيو 2022.
3 ) https://www.khotwacenter.com/ الأخلاق-والقيم-الإسلامية
4)يوسف مريمي؛ "في العلاقة بين الإيتيقا والأخلاق". موقع مؤمنون بلا حدود. 12 سبتمبر 2023. https://www.mominoun.com/articles/ في-العلاقة-بين-الإتيقا-والأخلاق-8707#
5) Abdulaziz Sachedina Islamic Ethics: Fundamental Aspects of Human Conduct. Oxford University Press, 2022. p 22
6 ) رشيد جرموني؛ "القِيم الخلقيّة والدينيّة وإشكاليّات الاطلاق والنسبيّة في المجال العالمي". مجلة التفاهم، عُمان؛ ع 64 / 2019، ص 207
7) باومند؛ نفسه. ص 36
8 ) عادل العوا؛ العمدة في فلسفة القيم. دمشق: دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر، 1986.
9 ) نفسه. ص 45
10) نفسه. ص 43
11 ) عبد الله بن أحمد الفَيْفي؛ نقد القيم: مقاربات تخطيطية لمنهاج علمي جديد. بيروت: دار الانتشار العربي، 2006
12 ) الربيع ميمون؛ نظرية القيم في الفكر المعاصر بيت النسبية والمطلقية. الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، 1980. ص 126
13 ) حسين درويش العادلي؛ حرب المصطلحات، دراسة تتناول ثلاثة مصطلحات تفترش الساحة المعرفية العربية: الدرين تراث – أنسنة النص – نسبية القيم. بيروت: دار الهادي، 2003. ص
14 ) أنظر على سبيل المثال لا الحصر: عمر رياض؛ "تحديد مفهوم القيم". الرابطة المحمدية للعلماء. 12 / 07 / 2019 https://www.arrabita.ma/blog/ 1-1-تحديد-مفهوم-القيم/
15) Abdullah Draz; La morale du Koran. Paris: PUF, 1951